مقالات

البيوفيليا في العمارة.. عندما تتنفس المباني الطبيعة

في عالمٍ يتزايد فيه الإسمنت ويبتعد الإنسان فيه عن جذوره البيئية، تعود البيوفيليا لتعيد التوازن بين الكائن البشري والبيئة التي تحتضنه.
البيوفيليا — أو “حب الطبيعة” — ليست مفهومًا شاعريًا فحسب، بل توجه علمي في العمارة والهندسة يسعى إلى دمج عناصر الطبيعة الحية أو محاكاتها في التصميم المعماري بهدف تعزيز صحة الإنسان وراحته النفسية والجسدية.

يُنظر إلى التصميم البيوفيلي اليوم باعتباره أحد ركائز العمارة المستدامة، إذ لا يكتفي بالاهتمام بكفاءة الطاقة أو المواد البيئية، بل يذهب أبعد من ذلك نحو تحسين جودة الحياة داخل الفضاءات المبنية. فالمبنى في هذا الإطار لا يكون مجرد مأوى، بل نظامًا حيًا يتفاعل مع الضوء، الهواء، النبات، والماء.

جذور المفهوم وتطوره في العمارة

ظهر مصطلح البيوفيليا في منتصف القرن العشرين على يد عالم الأحياء الأمريكي “إدوارد ويلسون”، الذي أشار إلى أن الإنسان يمتلك ارتباطًا فطريًا بالعالم الطبيعي.
ومع تطور العلوم البيئية والعمارة، انتقل هذا المفهوم من النظرية إلى التطبيق، فبدأ المعماريون والمخططون بتصميم مبانٍ تستلهم الطبيعة في شكلها، مادتها، ووظيفتها.

التصميم البيوفيلي (Biophilic Design) لا يعني مجرد وضع نباتات في المبنى، بل خلق منظومة حسية متكاملة تُعيد للإنسان شعوره بالانتماء للطبيعة، عبر الضوء الطبيعي، والتهوية المتجددة، والمناظر الحية، والمواد العضوية، وحتى الأصوات الطبيعية التي تلطّف الإحساس المكاني.

العلاقة بين البيوفيليا والاستدامة

رغم أن كلا المفهومين — البيوفيليا والاستدامة — يسعيان لحماية الإنسان والبيئة، إلا أن بينهما اختلافًا في المنهج:
الاستدامة تهدف إلى تقليل الأثر السلبي على البيئة، بينما تسعى البيوفيليا إلى زيادة الأثر الإيجابي للطبيعة على الإنسان.
إنها الوجه الإنساني للعمارة المستدامة، حيث يلتقي العلم بالوجدان، والكفاءة البيئية بالجمال الطبيعي.

أثر البيوفيليا على صحة الإنسان ورفاهيته

تشير دراسات علمية متعددة إلى أن البيئات التي تتضمن عناصر طبيعية — سواء كانت نباتات حقيقية، أو مناظر طبيعية مرئية من النوافذ، أو مواد طبيعية كالحجر والخشب — تُحدث تأثيرات ملحوظة على الحالة النفسية والبدنية للبشر، منها:

  • خفض مستويات التوتر وتحسين المزاج العام.

  • زيادة القدرة على التركيز والإنتاجية في بيئات العمل والتعليم.

  • تسريع التعافي في المستشفيات والمراكز الصحية.

  • تعزيز الإحساس بالانتماء والارتباط بالمكان.

إن هذه النتائج ليست مفاجئة؛ فالإنسان تطوّر عبر آلاف السنين في بيئات طبيعية مفتوحة، وليس في غرف مغلقة أو نوافذ مظلمة. لذا، عندما تتيح له العمارة المعاصرة ملامسة الطبيعة من جديد، يستعيد جسده ونفسه توازنهما الطبيعي.

البيوفيليا في السياق العربي

رغم أن المصطلح حديث نسبيًا في الفكر المعماري العربي، إلا أن العمارة التقليدية في العالم العربي كانت بطبيعتها بيوفيليّة قبل أن يُصاغ المصطلح.
فالفناء الداخلي في البيوت الدمشقية أو البغدادية، والرياحين في النوافذ، والمياه الجارية في الساحات، كلها عناصر تربط الإنسان بالطبيعة، وتخلق توازنًا مناخيًا وحسيًا.

اليوم، تعود هذه المبادئ إلى الواجهة بأسلوب معاصر من خلال مشاريع عربية تدمج البيوفيليا في قلب المدن الحديثة.

مشروع واحة مسقط في سلطنة عُمان

يُعد مشروع واحة مسقط أحد النماذج العربية البارزة في دمج مبادئ التصميم البيوفيلي بالبيئة الحضرية.
تمتد الواحة كمنظومة عمرانية مستدامة تتناغم مع المناخ المحلي، وتستخدم النباتات الأصلية والمياه المعاد تدويرها لتكوين بيئة خضراء متصلة.
يعمل التكوين المعماري على تحفيز التهوية الطبيعية والإضاءة المتغيرة، فيما توفر الممرات المظللة وحدائق الأسطح نقاط تفاعل بصري وحسي بين الإنسان والطبيعة، دون استهلاك مفرط للموارد.
هذا التزاوج بين الهوية المحلية والبيوفيليا جعل المشروع نموذجًا معتمدًا في دراسات العمارة المستدامة في المنطقة.

مشروع “حديقة الملك سلمان” في الرياض – السعودية

يمثل هذا المشروع الضخم مثالًا آخر على تطبيق البيوفيليا على نطاق حضري واسع.
تبلغ مساحة الحديقة أكثر من 16 كيلومترًا مربعًا، وتضم أنظمة بيئية متكاملة، وحدائق نباتية، وممرات مشاة وأنهارًا صناعية تعزز العلاقة اليومية بين سكان المدينة والطبيعة.
الهدف من التصميم هو تحسين جودة الحياة الحضرية عبر توفير تجارب حسية متصلة بالطبيعة داخل نسيج المدينة، ما يجعلها إحدى أكبر المبادرات العالمية في إدماج العمارة والمناظر الطبيعية لتعزيز الرفاه البشري.

التحديات والفرص أمام التصميم البيوفيلي

رغم فوائده المتعددة، يواجه التصميم البيوفيلي تحديات في التطبيق، أبرزها التكلفة الأولية، ومتطلبات الصيانة الدورية، وضرورة المواءمة بين المناخ المحلي والعناصر الطبيعية المستخدمة.
إلا أن هذه التحديات ليست عائقًا حقيقيًا أمام المكاتب الهندسية الواعية، بل فرصًا لتطوير حلول تصميمية ذكية تستفيد من المناخ المحلي والمواد الطبيعية بأساليب مستدامة واقتصادية.

على سبيل المثال، يمكن استخدام النباتات المحلية المقاومة للجفاف، وأنظمة التهوية الطبيعية بدل التكييف الصناعي، وتوظيف الفتحات المدروسة لتوفير الإضاءة دون ارتفاع الحرارة.

نحو عمارة تعيد للإنسان طبيعته

البيوفيليا ليست موضة عابرة في العمارة، بل عودة إلى الأصل.
إنها تذكير بأن الإنسان ليس كائنًا منفصلًا عن الطبيعة، بل جزء منها. وعندما نصمم مبانينا لتحتضن الضوء والهواء والنبات والماء، فإننا لا نحسّن جودة التصميم فحسب، بل نصون التوازن البيئي والنفسي للحياة الحضرية.

لقد آن الأوان لأن تتبنى المكاتب الهندسية العربية هذا التوجه العلمي في مشاريعها، وتدمجه بوعي ضمن معايير التصميم المستدام، لتصبح المدن العربية أكثر انسجامًا مع الإنسان والطبيعة.

في الختام، إن تطبيق مبادئ البيوفيليا في العمارة والهندسة ليس رفاهية، بل ضرورة بيئية وصحية في عالم يعاني من ضغط الإسمنت والضوضاء.
التحدي الحقيقي أمام المهندس المعاصر هو كيف يجعل المبنى “كائنًا حيًا” يتنفس، يتفاعل، ويُسهم في راحة الإنسان.

ولأن المكتب الوطني للاستشارات الهندسية يؤمن بدور المعرفة في تحسين بيئاتنا المبنية، فإنه يسعى عبر أبحاثه ومشاريعه إلى تطبيق مفاهيم العمارة المستدامة والبيوفيليا في كل تصميم، لتبقى مدننا نابضة بالحياة وجمال الطبيعة.

إذا كنت تفكر في تطوير مشروع عمراني أو تصميم مستدام يعكس هوية المكان ويعزز رفاه الإنسان، فإن فريق المكتب الوطني للاستشارات الهندسية يضع بين يديك خبراته في الهندسة المعمارية، والتصميم البيئي، والاستشارات المستدامة.
تواصل معنا اليوم لتحويل أفكارك إلى مشاريع تنبض بالحياة والطبيعة.